فصل: الآية رقم ‏(‏151 ‏:‏ 152‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 الآية رقم ‏(‏149 ‏:‏ 150‏)‏

‏{‏ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ‏.‏ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ‏}‏

هذا أمر ثالث من اللّه تعالى باستقبال المسجد الحرام من جميع أقطار الأرض، وقد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلاث مرات، فقيل‏:‏ تأكيد لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره، وقيل‏:‏ بل هو منزل على أحوال، فالأمر الأول لمن هو مشاهد الكعبة، والثاني لمن هو في مكة غائباً عنها، والثالث لمن هو في بقية البلدان هكذا وجَّهه فخر الدين الرازي‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن هو في بقية الأمصار، والثالث لمن خرج في الاسفار، وقيل‏:‏ إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق، فقال أولاً‏:‏ ‏{‏قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها‏}‏، فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها ويرضاها وقال في الأمر الثاني‏:‏ ‏{‏ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون‏}‏، فذكر أنه الحق من اللّه وارتقاءه المقام الأول حيث كان موافقاً لرضا الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فبين أنه الحق أيضاً من اللّه يحبه ويرتضيه، وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كان يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم عليه السلام إلى الكعبة، وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف، وقد كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول إليها، وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار، وقد بسطها الرازي وغيره، واللّه أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لئلا يكون للناس عليكم حجة‏}‏ أي أهل الكتاب فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجّه إلى الكعبة، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين، ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس وهذا أظهر، قال أبو العالية‏:‏ ‏{‏لئلا يكون للناس عليكم حجة‏}‏ يعني به أهل الكتاب حين قالوا‏:‏ صرف محمد إلى الكعبة، وقالوا‏:‏ اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه‏.‏ وكان حجتهم على النبي صلى اللّه عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام أن قالوا‏:‏ سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إلا الذين ظلموا منهم‏}‏ يعني مشركي قريش، ووجه بعضهم حجة الظلمة وهي داحضة أن قالوا‏:‏ إنَّ هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم، فإن كان توجهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم فلم يرجع عنه‏؟‏ والجواب أن اللّه تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولاً، لما له تعالى في ذلك من الحكمة، فأطاع ربه تعالى في ذلك، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم وهي الكعبة، فامتثل أمر اللّه في ذلك أيضاً فهو صلوات اللّه وسلامه عليه مطيع للّه في جميع أحواله، لا يخرج عن أمر اللّه طرفة عين وأمته تبعٌ له‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تخشوهم واخشوني‏}‏ أي لا تخشوا شبه الظلمة المتعنتين وأفردوا الخشية لي، فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه، وقوله‏:‏ ‏{‏ولأتم نعمتي عليكم‏}‏ عطف على ‏{‏لئلا يكون للناس عليكم حجة‏}‏، أي لأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها، ‏{‏ولعلكم تهتدون‏}‏ إي إلى ما ضلت عنه الأمم هديناكم إليه وخصصناكم به، ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم وأفضلها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏151 ‏:‏ 152‏)‏

‏{‏ كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ‏.‏ فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ‏}‏

يذكِّر تعالى عباده المؤمنين، ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم إليهم، يتلو عليهم آيات اللّه مبينات ‏{‏ويزكيهم‏}‏ أي يطهرهم من رذائل الأخلاق، ودنس النفوس وأفعال الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعلمهم الكتاب وهو القرآن، والحكمة وهي السنّة، ويعلِّمهم ما لم يكونوا يعلمون، فكانوا في الجاهلية الجهلاء يُسفِّهون بالقول القُرّاء، فانتقلوا ببركة رسالته، ويمن سفارته، إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء، فصاروا أعمق الناس علماً، وأبرهم قلوباً، وأقلهم تكلفاً، وأصدقهم لهجة‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قد منّ اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم‏}‏ الآية‏.‏ وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة اللّه كفراً وأحلوا قومهم دار البوار‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني بنعمة الله محمداً صلى اللّه عليه وسلم ولهذا ندب اللّه المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون‏}‏ قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏كما أرسلنا فيكم رسولا منكم‏}‏ يقول‏:‏ كما فعلتُ فاذكروني‏.‏

قال زيد بن أسلم‏:‏ إن موسى عليه السلام قال‏:‏ يا رب كيف أشكرك‏؟‏ قال له ربه‏:‏ ‏(‏تذكرني ولا تنساني فإذا ذكرتني فقد شكرتني، وإذ نسيتني فقد كفرتني‏)‏ قال الحسن البصري‏:‏ إن اللّه يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويعذب من كفره، وقال بعض السلف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتقوو اللّه حق تقاته‏}‏ هو ‏(‏ أن يطاع فلا يعصى، ويُذكر فلا يُنْسى، ويُشْكَر فلا يُكْفر‏)‏ وقال الحسن البصري في قوله‏:‏ ‏{‏فاذكروني أذكركم‏}‏ اذكروني فيما افترضت عليكم اذكركم فيا أوجبت لكم على نفسي، عن سعيد بن جبير‏:‏ اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي، وفي رواية برحمتي‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏يقول اللّه تعالى مَن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومَن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه‏)‏ وعن أنَس قال‏:‏ قال قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏قال اللّه عزّ وجلّ يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة - أو قال في ملأ خير منه - وإن دنوت مني شبراً دنوتُ منك ذراعاً، وإن دنوت مني ذراعاً دنوت منك باعاً، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولةً‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري من حديث قتادة، ورواه الإمام أحمد عن أنَس بن مالك‏"‏‏)‏ قال قتادة‏:‏ اللّه أقرب بالرحمة وقوله‏:‏ ‏{‏واشكروا لي ولا تكفرون‏}‏ أم اللّه تعالى بشكره ووعد على شكره بمزيد الخير، فقال‏:‏ ‏{‏وإذ تأذن ربكم لئن شركتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد‏}‏ روى أبو رجاء العطاردي قال‏:‏ خرج علينا ‏"‏عمران بن حصين‏"‏وعليه مطرف من خز لم نره عليه قبل ذلك ولا بعده، فقال‏:‏ إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من أنعم اللّه عليه نعمة فإن اللّه يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه ‏"‏أخرجه الإمام أحمد عن ابي رجاء العطاردي‏"‏‏)‏ وروي‏:‏ على عبده‏.‏

 الآية رقم ‏(‏153 ‏:‏ 154‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ‏.‏ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ‏}‏

لما فرغ تعالى من بيان الأمر بالشكر، شرع في بينان الصبر والإرشاد والاستعانة بالصبر والصلاة، فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها، أو في نقمة فيصبر عليها، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏عجبا للمؤمن لا يقضي اللّه له قضاء إلا كان خيراً له‏:‏ إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له‏)‏‏.‏ وبيَّن تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين‏}‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا حزّ به أمر صلّى‏)‏ والصبر صبران‏:‏ فصبرك على ترك المحارم والمآثم، وصبر على فعل الطاعات والقربات، والثاني أكثر ثواباً لأنه المقصود، وأما الصبر الثالث وهو الصبر على المصائب والنوائب فذاك أيضا واجب كالاستغفار من المعايب‏.‏ قال زين العابدين‏:‏ إذا جمع اللّه الأولين والآخرين ينادي مناد أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب‏؟‏ قال‏:‏ فيقوم عُنُق ‏"‏جماعة متقدمة، وزين العابدين هو ‏"‏علي بن الحسين‏"‏رضي اللّه عنه‏"‏من الناس فتتلقاهم الملائكة فيقولون‏:‏ إلى أين يا بني آدم‏؟‏ فيقولون‏:‏ إلى الجنة، فيقولون‏:‏ قبل الحساب‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قالوا‏:‏ مَن أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ نحن الصابرون، قالوا‏:‏ وما كان صبكم‏؟‏ قالوا‏:‏ صبرنا على طاعة اللّه وصبرنا عن معصية اللّه حتى توفانا اللّه، قالو‏:‏ أنتم كما قلتم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين‏.‏ قلت‏:‏ ويشهد لهذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب‏}‏، وقال سعيد بن جبير‏:‏ الصبر اعتراف العبد للّه بما أصاب منه، واحتسابه عند الّله رجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء‏}‏ يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون كما جاء في صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏ إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال‏:‏ ماذا تبغون‏؟‏ قالوا‏:‏ يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك‏؟‏ ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا، قالو‏:‏ نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أُخرى - لما يرون من ثواب الشاهدة - فيقول الرب جلّ جلاله‏:‏ إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون‏)‏ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرجعه اللّه إلى جسده يوم يبعثه‏)‏ ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضاً وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر في القرآن تشريفاً لهم وتكريماً وتعظيماً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏155 ‏:‏ 157‏)‏

‏{‏ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ‏.‏الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ‏.‏ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ‏}‏

أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده أي يختبرهم ويمتحنهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم‏}‏ فتارةً بالسرّاء، وتارة بالضراء من خوف وجوع، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف‏}‏، فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لباس الجوع والخوف‏}‏ وقال ههنا‏:‏ ‏{‏بشيء من الخوف والجوع‏}‏ أي بقليل من ذلك، ‏{‏ونقص من الأموال‏}‏ أي ذهاب بعضها ‏{‏والانفس‏}‏ كموت الأصحاب والأقارب والأحباب، ‏{‏والثمرات‏}‏ أي لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها، قال بعض السلف فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحة، وكل هذا وأمثاله مما يختبر اللّه به عباده، فمن صبر أثابه ومن قنط أحل به عقابه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وبشر الصابرين‏}‏

ثمَّ بيَّن تعالى مَنِ الصابرون الذين شكرهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون‏}‏ أي تسلوا بقولهم هذا عمّا أصابهم، وعلموا أنهم ملك للّه يتصرف في عبيده بما يشاء، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة، ولهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة‏}‏ أي ثناء من اللّه عليهم ‏{‏وأولئك هم المهتدون‏}‏ قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب‏:‏ نعم العِدْلان ونعمت العِلاوة ‏{‏أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة‏}‏ هذان العدلان ‏{‏وأولئك هم المهتدون‏}‏ فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضاً‏.‏

وقد ورد في ثواب الاسترجاع عند المصائب أحاديث كثيرة فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن أم سلمة قالت‏:‏ أتاني أبو سلمى يوماً من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ لقد سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قولاً سررت به، قال‏:‏ ‏(‏لا يصيب أحداً من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول‏:‏ اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا فعل ذلك به‏)‏ قالت أم سلمة‏:‏ فحفظت ذلك منه، فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت‏:‏ اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها، ثم رجعت إلى نفسي فقلت‏:‏ من أن لي خير من أبي سلمة‏؟‏ فلما انقضت عدتي استأذن ليَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا أدبغ إهاباً لي، فغسلت يدي من القرظ وأذْنت له، فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف فقعد عليها فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته قلت‏:‏ يا رسول اللّه ما بي أن لا يكون بك الرغبة، ولكني امرأة فيَّ غيرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئاً يعذبني اللّه به، وأنا امرأة قد دخلت في السن وأنا ذات عيال، فقال‏:‏ ‏(‏أمّا ما ذكرتِ من الغيرة فسوف يُذهبها اللّه عزّ وجلّ عنك، وأمّا ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأمّا ما ذكرتِ من العيال فإنما عيالك عيالي‏)‏، قالت‏:‏ فقد سلَّمتُ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فتزوجها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالت أم سلمة بعد‏:‏ أبدلني اللّه بأبي سلمة خيراً منه‏:‏ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏.‏ وعن أم سلمة قالت‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما من عبدٍ تصيبه مصيبة فيقول ‏{‏إنا لله وإنا إليه راجعون‏}‏ اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا آجره اللّه في مصيبته وأخلف له خيراً منها‏)‏، قالت‏:‏ فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخلف اللّه لي خيراً منه‏:‏ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏)‏ ‏"‏رواه مسلم عن أُم سلمة‏"‏‏.‏

وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من مسلم ولا مسلمة يُصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدّد اللّه له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وابن ماجة‏"‏وعن أبي سنان قال‏:‏ دفنت ابناً لي فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة ‏"‏يعني الخولاني‏"‏فأخرجني وقال لي‏:‏ ألا أبشِّرك‏؟‏ قلت‏:‏ بلى، قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏)‏قال اللّه‏:‏ يا ملك الموت قبضت ولد عبدي‏؟‏ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فما قال‏؟‏ قال‏:‏ حمدك واسترجع، قال‏:‏ ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد‏)‏ ‏"‏رواه أحمد والترمذي‏"‏

 الآية رقم‏(‏158‏)‏

‏{‏ إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ‏}‏

روى الإمام أحمد عن عروة عن عائشة قال، قلتُ‏:‏ أرأيتِ قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما‏}‏‏؟‏ فواللّه ما على أحدٍ جناح أن لا يتطوف بهما، فقالت عائشة‏:‏ بئس ما قلتَ يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أولتها عليه كانت فلا جُناح عليه أن لا يطَّوف بهما، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلِّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عن المشلل، وكان من أهلَّ لها يتحرج أن يطَّوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه إنا كنا نتحرج أن نطَّوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل اللّه عزّ وجلّ، ‏{‏إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما‏}‏ قالت عائشة‏:‏ ثم قد سنَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما ‏"‏رواه الشيخان وأحمد‏"‏‏.‏ وقال أنَس‏:‏ كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏إن الصفا والمروة من شعائر الله‏}‏ وقال الشعبي‏:‏ كان إساف على الصفا وكانت نائلة على المروة، وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما فنزلت هذه الآية‏.‏

وفي صحيح مسلم‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه ثم خرج من باب الصفا وهو يقول‏:‏ ‏{‏إن الصفا والمروة من شعائر الله‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏أبدأ بما بدأ الله به‏)‏ ‏"‏رواه مسلم من حديث جابر الطويل‏"‏وعن حبيبة بنت أبي تجراة قالت‏:‏ رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول‏:‏ ‏)‏اسعوا فإن اللّه كتب عليكم السعي‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد‏"‏وقد استدل بهذا الحديث من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج، كما هو مذهب الشافعي ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك، وقيل‏:‏ إنه واجب وليس بركن فإن تركه عمداً أو سهواً جبره بدم وهو رواية عن أحمد‏.‏ وقيل‏:‏ بل مستحب‏.‏ واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تطوع خيرا‏}‏، والقول الأول أرجح لأنه عليه السلام طاف بينهما وقال‏:‏ ‏(‏خذوا عني مناسككم‏)‏ بيَّن تعالى أن الطواف بين الصفا والمروة ‏{‏من شعائر الله‏}‏ أي مما شرع اللّه تعالى لأبراهيم في مناسك الحج، وقد تقدم في حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر، وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها لمّا نفد ماؤهما وزادهما، فلم تزل تتردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة خائفة وجلة حتى كشف اللّه كربتها، وآنس غربتها، وفرَّج شدتها وأنبع لها زمزم التي ماؤها ‏(‏طعام طعم، وشفاء سقم‏)‏، فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى اللّه في هداية قلبه، وصلاح حاله، وغفران ذنبه، وأن يلتجىء إلى اللّه عزّ وجلّ لتفريج ما هو به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فمن تطوع خيرا‏}‏ قيل‏:‏ زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنة وتاسعة ونحو ذلك، وقيل‏:‏ يطوف بينهما في حجة تطوع أو عمرة تطوع، وقيل‏:‏ المراد تطوّع خيراً في سائر العبادات‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإن الله شاكر عليم‏}‏ أي يثيب على القليل بالكثير ‏{‏عليم‏}‏ بقدر الجزاء فلا يبخس أحداً ثوابه و ‏{‏لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏159 ‏:‏ 162‏)‏

‏{‏ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ‏.‏ إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ‏.‏ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ‏.‏ خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ‏}‏

هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل، من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة، والهدى النافع للقلوب، من بعد ما بينه اللّه تعالى لعباده، في كتبه التي أنزلها على رسله، وقد نزلت في أهل الكتاب كتموا صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وفي الحديث‏:‏ ‏(‏من سئل عن عِلْمٍ فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار‏)‏ ‏"‏أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة‏"‏وروي عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ لولا آية في كتاب اللّه ما حدَّثت أحداً شيئاً ‏{‏إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى‏}‏ الآية‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ ‏{‏ويلعنهم اللاعنون‏}‏ يعني تلعنهم الملائكة والمؤمنون، وقد جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحِيتان في البحر‏)‏، وجاء في هذه الآية أن كاتم العلم يلعنه اللّه والملائكة والناس أجمعون‏.‏ ثم استثنى اللّه تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا‏}‏ أي رجعوا عمّا كانوا فيه، وأصلحوا أعمالهم، وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه ‏{‏فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم‏}‏، وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر أو بدعة إذا تاب إلى اللّه تاب اللّه عليه، ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمر به الحال إلى مماته بأن ‏{‏عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها‏}‏ أي في اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة، ثم المصاحبة لهم في نار جهنم ‏{‏لا يخفف عنهم العذاب‏}‏ فيها أي لا ينقص عمّا هم فيه ‏{‏ولا هم ينظرون‏}‏ أي لا يغير عنهم ساعة واحدة ولا يفتر، بل هو متواصل دائم فنعوذ باللّه من ذلك‏.‏ قال أبو العالية وقتادة‏:‏ إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه اللّه، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون‏.‏

 فصل

لا خلاف في جواز لعن الكفار، فأما الكافر المعين فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم اللّه له‏.‏ وقالت طائفة أُخرى‏:‏ بل يجوز لعن الكافر المعين، واختاره ابن العربي ولكنه احتج بحديث فيه ضعف، واستدل غيره بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تلعنه فإنه يحب اللّه ورسوله‏)‏ قاله عليه السلام في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده فقال رجل‏:‏ لعنه اللّه ما أكثر ما يؤتى به‏.‏‏.‏الحديث فدل على أن من لا يحب اللّه ورسوله يلعن، وقد كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ومن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت وغيره، واستدل بعضهم بالآية ‏{‏أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين‏}‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏163‏)‏

‏{‏ وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ‏}‏

يخبر تعالى عن تفرده بالألهية، وأنه لا شريك له ولا عديل له، بل هو اللّه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا إله إلا هو وأنه الرحمن الرحيم، وقد تقدَّم تفسير هذين القسمين في أول الفاتحة‏.‏ وفي الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏اسم اللّه الأعظم في هاتين الآيتين ‏{‏وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم‏}‏و ‏{‏ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت‏ السَّكن مرفوعاً‏"‏ثم ذكر الدليل على تفرده بالإلهية، بخلق السماوات والأرض وما فيهما وما بين ذلك، مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته فقال‏:‏

 الآية رقم ‏(‏164‏)‏

‏{‏ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏إن في خلق السموات والأرض‏}‏ تلك في ارتفاعها ولطافتها واتساعها، وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها، وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها، وجبالها وبحارها، وقفارها وعمرانها، وما فيها من المنافع، واختلاف الليل والنهار، هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه، لا يتأخر عنه لحظة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون‏}‏ وتارة يطول هذا ويقصر هذا، وتارة يأخذ هذا من هذا، ثم يتعاوضان كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل‏}‏ أي يزيد من هذا في هذا ومن هذا في هذا، ‏{‏والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس‏}‏ أي في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى جانب، لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم، ونقل هذا إلى هؤلاء وما عند ألئك إلى هؤلاء‏:‏ ‏{‏وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون‏}‏، ‏{‏وبث فيها من كل دابة‏}‏ أي على اختلاف أشكالها وألوانها، ومنافعها وصغرها وكبرها، وهو يعلم ذلك كله ويرزقه، لا يخفى عليه شيء من ذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين‏}‏ ‏{‏وتصريف الرياح‏}‏ أي فتارة تأتي بالرحمة، وتارة تأتي بالعذاب، وتارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب، وتارةً تسوقه وتارة تجمعه، وتارة تفرِّقه، وتارة تصرفه، ثم تارة تأتي من الجنوب وتارة تأتي من ناحية اليمن ‏{‏والسحاب المسخر بين السماء والأرض‏}‏ أي سائر بين السماء والأرض، مسخر إلى ما يشاء اللّه من الأراضي والأماكن كما يصرفه تعالى‏:‏ ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ أي في هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية اللّه تعالى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب‏}‏

عن عطاء قال‏:‏ نزلت على النبي صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة‏:‏ ‏{‏وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم‏}‏ فقال كفار قريش بمكة‏:‏ كيف يسع الناس إله واحد‏؟‏ فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن عطاء‏"‏فبهذا يعلمون أنه إله واحد، وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء‏.‏ وقال أبو الضحى‏:‏ لما نزلت ‏{‏وإلهكم إله واحد‏}‏ قال المشركون‏:‏ إن كان هكذا فليأتنا بآية فأنزل اللّه عز وجلّ‏:‏ ‏{‏إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يعقلون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏165 ‏:‏ 167‏)‏

‏{‏ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ‏.‏ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ‏.‏ وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ‏}‏

يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا له أنداداً أي امثالاً ونظراء، يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، وهو اللّه لا إله إلا هو ولا ضد له ولا ند له ولا شريك معه، وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال، قلت‏:‏ يا رسول اللّه أيُّ الذنْب أعظم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تجعل لله ندا هو خلقك‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا أشد حبا لله‏}‏ ولحبهم للّه وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم له لا يشركون به شيئاً، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه، ويلجأون في جميع أمورهم إليه‏.‏

ثم توعد تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بذلك فقال‏:‏ ‏{‏ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا‏}‏ قال بعضهم‏:‏ تقدير الكلام لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة للّه جميعاً، أي أن الحكم له وحده لا شريك له وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه، ‏{‏وأن اللّه شديد العذاب‏}‏، كما قال‏:‏ ‏{‏فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد‏}‏ يقول‏:‏ لو يعلمون ما يعاينونه هنالك، وما يحل بهم من الأمر الفظيع، المنكر الهائل على شركهم وكفرهم، لا نتهوا عمّا هم فيه من الضلال‏.‏ ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم، وتبري المتبوعين من التابعين فقال‏:‏ ‏{‏إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا‏}‏، تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا، فتقول الملائكة‏:‏ ‏{‏تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون‏}‏، ويقولون‏:‏ ‏{‏سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون‏}‏‏.‏ والجن أيضاً تتبرأ منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدّاً‏}

وقوله‏:‏ ‏{‏ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب‏}‏ أي عاينوا عذاب اللّه وتقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار معدلاً ولا مصرفاً، قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وتقطعت بهم الأسباب‏}‏ المودة، وقوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤا منا‏}‏ أي لو أن لنا عودة إلى الدار الدنيا، حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم، فلا نلتفت إليهم بل نوحّد اللّه وحده بالعبادة، وهم كاذبون في هذا بل لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون، كا أخبر اللّه تعالى عنهم بذلك، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏كذلك يريهم اللّه أعمالهم حسرات عليهم‏}‏ أي تذهب وتضمحل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف‏}‏ الآية‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء‏}‏ الآية‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما هم بخارجين من النار‏}‏

 الآية رقم ‏(‏168 ‏:‏ 169‏)‏

‏{‏ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ‏.‏ إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ‏}‏

لما بيَّن تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه المستقل بالخلق، شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه، فذكر في مقام الإمتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض، في حال كونه حلالاً من اللّه طيباً أي مستطاباً في نفسه، غير ضار للأبدان ولا للعقول، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان، وهي طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه، من تحريم البحائر السوائب والوصائل ونحوها، مما كان زينه لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حماد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يقول اللّه تعالى إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال - وفيه - وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم‏)‏ ‏"‏رواه مسلم (1)وعن ابن عباس قال‏:‏ تليت هذه الآية عند النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا‏}‏ فقام سعد بن أبي وقاص فقال‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ أدع اللّه أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال‏:‏ ‏(‏يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً، وأيّما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به‏)‏ ‏"‏رواه الحافظ ابن مردويه عن عطاء عن ابن عباس‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه لكم عدو مبين‏}‏ تنفير عنه وتحذير منه، كما قال‏:‏ ‏{‏إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدوا‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدوّ بئس للظالمين بدلا‏}‏ قال قتادة والسُّدي‏:‏ كل معصية للّه فهي من خطوات الشيطان‏.‏ وقال مسروق‏:‏ أُتي عبد اللّه بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل، فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود‏:‏ ناولوا صاحبكم، فقال‏:‏ لا أريده، فقال‏:‏ أصائم أنت‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فما شأنك‏؟‏ قال‏:‏ حرمت أن آكل ضرعاً أبداً، فقال ابن مسعود‏:‏ هذا من خطوات الشيطان، فاطعم وكفّر عن يمينك ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن أبي الضحى عن مسروق‏"‏وعن ابن عباس قال‏:‏ ما كان من يمين أو نذر في غضب، فهو من خطوات الشيطان، وكفارتُه كفارة يمين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏ أي إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه، وأغلظُ من ذلك وهو القول على اللّه بلا علم، فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضاً ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏170 ‏:‏ 171‏)‏

‏{‏ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ‏.‏ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم‏}‏ للكفرة المشركين‏:‏ ‏{‏اتبعوا ما أنزل الله‏}‏ على رسوله، واتركوا ما انتم عليه من الضلال والجهل، قالوا في جواب ذلك‏:‏ ‏{‏بل نتبع ما ألفينا‏}‏ أي ما وجدنا عليه آباءنا، أي من عبادة الأصنام والأنداد‏.‏ قال اللّه تعالى منكراً عليهم‏:‏ ‏{‏أو لو كان آباؤهم‏}‏ أي الذي يقتدون بهم ويقتفون أثرهم ‏{‏لا يعقلون شيئا ولا يهتدون‏}‏ أي ليس لهم فهم ولا هداية، عن ابن عباس أنها نزلت في طائفة من اليهود، دعاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الإسلام، فقالوا‏:‏ بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فأنزل اللّه هذه الآية ‏"‏رواه ابن إسحاق عن ابن عباس‏"‏ثم ضرب لهم تعالى مثلاً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏للذين لا يؤمنون بالأخرة مثل السوء‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏ومثل الذين كفروا‏}‏ أي فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل، كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يُقال لها، بل إذا نعق بها راعيها، أي دعاها إلى ما يرشدها لا تفقه ما يقول ولا تفهمه بل إنما تسمع صوته فقط، هكذا روي عن ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ إنما هذا مثل ضرب لهم في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئاً، واختاره ابن جرير، والأول أولى لأن الأصنام لا تسمع شيئا ولا تعقله ولا تبصره ولا بطش لها ولا حياة فيها، وقوله‏:‏ ‏{‏صم بكم عمي‏}‏ أي صم عن سماع الحق، بُكْمٌ لا يتفوهون به، عمي عن رؤية طريقه ومسلكه ‏{‏فهم لا يعقلون‏}‏ أي لا يعقلون شيئاً ولا يفهمونه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏172 ‏:‏ 173‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ‏.‏ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ‏}‏

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى، وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عُبَّاده، والأكل من الحلال سبب لتقبّل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة، كما جاء في الحديث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أيها الناس إن اللّه طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم‏}‏ ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعَمُه حرامٌ، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنّى يستجاب لذلك‏؟‏‏)‏ ‏"‏رواه أحمد ومسلم والترمذي‏"‏ولما امتن تعالى عليهم برزقه وأرشدهم إلى الأكل من طيِّبه، ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية، وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو عدا عليها السبع، وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحل لكم صيد البحر وطعامه‏}‏ وقوله عليه السلام في البحر‏:‏ ‏(‏هو الطهور ماؤه الحل ميتته‏)‏ ‏"‏رواه مالك وأصحاب السنن‏"‏وسيأتي تقرير ذلك إن شاء اللّه في سورة المائدة‏.‏

ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والإحتياج إليها عند فقد غيرها من الأطعمة فقال‏:‏ ‏{‏فمن اضطر غير باغ ولا عاد‏}‏ أي من غير بغي ولا عدوان وهو مجاوزة الحد ‏{‏فلا إثم عليه‏}‏ أي في أكل ذلك‏.‏ ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏ قال مجاهد‏:‏ ‏{‏غير باغ ولا عاد‏}‏ من خرج باغيا أو عادياً أو في معصية اللّه فلا رخصة له وإن اضطر إليه، وقال مقاتل بن حيان‏:‏ ‏{‏غير باغ‏}‏ يعني غير مستحله، وقال السُّدي‏:‏ ‏{‏غير باغ‏}‏ يبتغي فيه شهواته، وعن ابن عباس‏:‏ لا يشبع منها وعنه‏:‏ ‏{‏غير باغ ولا عاد‏}‏ قال‏:‏ ‏{‏غير باغ‏}‏ في الميتة، ولا عادٍ في أكله، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏فمن اضطر غير باغ ولا عاد‏}‏ قال‏:‏ غير باغ في الميتة أي في أكله أن يتعدى حلالاً إلى حرام هو يجد عنه مندوحة، وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فمن اضطر‏}‏ أي أكره على ذلك بغير اختياره‏.‏

 مسألة

إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير، بحيث لا قطع فيه ولا أذى، فإنه لا يحل له أكل الميتة، بل يأكل طعام الغير بغير خلاف لحديث عباد بن شرحيل العنزي قال‏:‏ أصابتنا عاماً مخمصةٌ فأتيت المدينة، فأتيت حائطاً، فأخذت سنبلاً ففركته وأكلته وجعلت منه في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته، فقال للرجل‏:‏ ‏(‏ما أطعمته إذ كان جائعاً ولا ساعياً، ولا علَّمته إذ كان جاهلاً‏)‏ فأمره فرد إليه ثوبه، وأمر له بوسق طعام أو نصف وسق ‏"‏رواه ابن ماجة وإسناده قوي جدا‏"‏وقال مقاتل بن حيان‏:‏ في قوله ‏{‏فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم‏}‏ فيما أكل من اضطرار، وبلغنا - والله أعلم - أنه لا يزاد على ثلاث لقم، وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏غفور‏}‏ لما أكل من الحرام ‏{‏رحيم‏}‏ إذ أحل له الحرام في اضطرار، وقال مسروق‏:‏ من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ثم مات دخل النار، وهذا يقتضي أنّ أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة، وهذا هو الصحيح كالإفطار للمريض‏.‏

 الآية رقم ‏(‏174 ‏:‏ 176‏)‏

‏{‏ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ‏.‏ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار ‏.‏ ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يكتمون ما أنزل اللّه من الكتاب‏}‏ يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم، في كتبهم التي بأيديهم مما تشهد له بالرسالة والنبوة، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم، وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم آباءهم، فخشوا - لعنهم اللّه - إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك وهو نزر يسير، فباعوا أنفسهم بذلك، واعتاضوا عن الهدى بذلك النزر اليسر، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإن اللّه أظهر لعباده صدق رسوله، بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات، فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه، وصاروا عونا له على قتالهم، وباءوا بغضب على غضب، وذمّهم اللّه في كتابه في غير موضع، فمن ذلك هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏إن الذين يكتمون ما أنزل اللّه من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا‏}‏ وهو عرض الحياة الدنيا ‏{‏أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار‏}‏ أي إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق ناراً تأجج في بطونهم يوم القيامة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا‏}وفي الحديث الصحيح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم‏)‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب إليهم‏}‏، وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم، لأنهم كتموا وقد علموا فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم ‏{‏ولا يزكيهم‏}‏ أي يثني عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذاباً أليماً عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ثلاثة لا يكلمهم اللّه ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم‏:‏ شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر‏)‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه‏"‏ثم قال تعالى مخبراً عنهم‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ أي اعتاضوا عن الهدى - وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه - استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه الضلالة، وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم ‏{‏والعذاب بالمغفرة‏}‏ أي اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب وهو ما تعاطوه من أسبابه المذكورة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما أصبرهم على النار‏}‏ يخبر تعالى أنهم في عذاب شديد عظيم هائل، يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال عياذاً باللّه من ذلك وقيل‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏فما أصبرهم على النار‏}‏ أي فما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق‏}‏ أي إنما استحقوا هذا العذاب الشديد، لأن اللّه تعالى أنزل على رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم، وعلى الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل، وهؤلاء اتخذوا آيات اللّه هزواً، فكتابهم يأمرهم بإظهار العلم ونشره فخالفوه وكذبوه، وهذا الرسول الخاتم يدعوهم إلى اللّه تعالى، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وهم يكذبونه ويخالفونه، ويجحدونه ويكتمون صفته، فاستهزأوا بآيات اللّه المنزلة على رسله، فلهذا استحقوا العذاب والنكال، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏177‏)‏

‏{‏ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ‏}‏

اشتملت هذه الآية الكريمة على جمل عظيمة، وقواعد عميقة وعقيدة مستقيمة، فإن اللّه تعالى لما أمر المؤمنين أولاً بالتوجُّه إلى بيت المقدس، ثم حوّلهم إلى الكعبة، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فانزل اللّه تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو أن المراد إنما هو طاعة اللّه عزّ وجلّ، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجَّه، واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة المشرق أو المغرب برٌّ ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر اللّه وشرعه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر‏}‏، كما قال في الأضاحي والهدايا‏:‏ ‏{‏لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم‏}‏ وقال ابن عباس في هذه الآية‏:‏ ليس البر أن تصلُّوا ولا تعلموا، فامر اللّه بالفرائض والعمل بها، وقال أبو العالية‏:‏ كانت اليهود تُقْبل قبل المغرب، وكانت النصارى تُقبل قبل المشرق، فقال اللّه تعالى ‏{‏ليس البر أن تولو وجوهكم قبل المشرق والمغرب‏}‏ يقول‏:‏ هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل، وقال مجاهد‏:‏ ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة اللّه عزّ وجلّ، ‏{‏والكتاب‏}‏ وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السامء على الأنبياء، حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب، الذي انتهى إليه كل خير، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله وآمن بأنبياء اللّه كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات اللّه وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتى المال على حبه‏}‏ أي أخرجه وهو محبٌ له راغب فيه، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً‏:‏ ‏(‏أفضل الصدقة أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر‏)‏، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏‏{‏وآتى المال على حبه‏}‏ أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر‏)‏ ‏"‏رواه الحاكم عن ابن مسعود مرفوعاً وقال‏:‏ صحيح على شرط الشيخين‏"‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا* إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة‏}‏ نمط آخر أرفع من هذا وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه، وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذوي القربى‏}‏ وهم قرابات الرجل، وهم أولى من أعطى من الصدقة كما ثبت في الحديث‏:‏ والصدقة على المساكين صدقة وعلى ذوي الرحم ثنتان‏:‏ صدقة وصلة، فهم أولى الناس بك وبِبرَّك وإعطائك‏)‏ وقد أمر اللّه تعالى بالإحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز ‏{‏واليتامى‏}‏ هم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ، والقدرة على التكسب، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يتم بعد حلم‏)‏، ‏{‏والمساكين‏}‏ وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم سكناهم، فيُعْطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليس المسكين بهذ الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه‏)‏، ‏{‏وابن السبيل‏}‏ وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته ما يوصله إلى بلده، وكذا الذي يريد سفراً في طاعة فيعطي ما يكفيه في ذهابه وغيابه، ويدخل في ذلك الضيف كما قال ابن عباس ‏{‏ابن السبيل‏}‏‏:‏ هو الضيف الذي ينزل، ‏{‏والسائلين‏}‏ وهم الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏للسائل حق وإن جاء على فرس‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأبو داود‏"‏‏{‏وفي الرقاب‏}‏ وهم المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم، عن فاطمة بنت قيس قالت‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏في المال حق سوى الزكاة‏)‏، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب - إلى قوله - وفي الرقاب‏}‏ ‏"‏رواه ابن ماجة والترمذي‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أقام الصلاة‏}‏ أي وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها، على الوجه الشرعي المرضي، وقوله‏:‏ ‏{‏وآتى الزكاة‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة‏}‏ والمراد زكاة المال كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان، ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين، إنما هو التطوع والبر والصلة، ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس أن في المال حقاً سوى الزكاة، واللّه أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والموفون بعهدهم إذا عاهدوا‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏الذين يوفون بعهد اللّه ولا ينقضون الميثاق‏}‏ وعكس هذه الصفة النفاق كما صح في الحديث‏:‏ ‏(‏آية حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان‏)‏ ‏"‏رواه الشيخان‏"‏وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏وإذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس‏}‏ أي في حال الفقر وهو البأساء، وفي حال المرض والأسقام وهو الضراء، ‏{‏وحين البأس‏}‏ أي في حال القتال والتقاء الأعداء قاله ابن مسعود وابن عباس‏.‏ وإنما نصب ‏{‏الصابرين‏}‏ على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته، واللّه أعلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين صدقوا‏}‏ أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا ‏{‏وأولئك هم المتقون‏}‏ لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات‏.‏

 الآية رقم ‏(‏178 ‏:‏ 179‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ‏.‏ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ كتب عليكم العدل في القصاص - أيها المؤمنون - حركم بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا كما اعتدى من قبلكم وغيّروا حكم اللّه فيهم، وسبب ذلك قريظة والنضير فكان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به بل يُفادى بمائة وسق من التمر، وإذا قتل القرظي النضري قتل، وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر، ضعف دية القرظي، فأمر اللّه تعالى بالعدل في القصاص، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين، المخالفين لأحكام اللّه فيهم كفراً وبغياً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى‏}‏ وذكر عن سعيد ابن جبير في قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى‏}‏ يعني إذا كان عمداً الحر بالحر، وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، والمرأة منا الرجل منهم، فنزل فيهم‏:‏ ‏{‏الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى‏}‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير‏"‏وعن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏والأنثى بالأنثى‏}‏ أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، فأنزل اللّه النفس بالنفس والعين بالعين، فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستويين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله ‏{‏النفس بالنفس‏}‏‏.‏

 مسألة

ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة وهو مروي عن ‏"‏عليّ‏"‏و ‏"‏ابن مسعود‏"‏قال البخاري‏:‏ يقتل السيد بعبده لعموم حديث‏:‏ ‏(‏من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه ومن خصاه خصيناه‏)‏

وخالفهم الجمهور فقالوا‏:‏ لا يقتل الحر بالعبد، لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية وإنما تجب فيه قيمته، ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى، وذهب الجمهور إلى ان المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يقتل مسلم بكافر‏)‏، ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة ‏"‏أقول ما ذهب إليه أبو حنيفة ضعيف وفي النفس منه شيء، وما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح واللّه أعلم وانظر تفصيل المسألة في كتابنا ‏"‏تفسير آيات الأحكام الجزء الأول، ص 177‏"‏

 مسألة

قال الحسن وعطاء‏:‏ لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية، وخالفهم الجمهور لآية المائدة ولقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏المسلمون تتكافأ دماؤهم‏)‏، وقال الليث‏:‏ إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة‏.‏

 مسألة

ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد، قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم وقال‏:‏ لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة وذلك كالإجماع، وحكي عن الإمام أحمد رواية أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسانْ قال مجاهد‏:‏ العفو‏:‏ أن يقبل الدية في العمد‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فمن عفي له من أخيه شيء‏}‏ يعني فمن ترك له من أخيه شيء يعني أخذ الدية بعد استحقاق الدم وذلك العفو ‏{‏فاتباع بالمعروف‏}‏، يقول‏:‏ فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية ‏{‏وأداء إليه بإحسان‏}‏ يعني من القاتل من غير ضرر يؤدي المطلوب إليه بإحسان، ‏{‏ذلك تخفيف من ربكم ورحمة‏}‏ يقول تعالى إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد، تخفيفاً من اللّه عليكم ورحمة بكم، مما كان محتوماً على أمم قبلكم من القتل أو العفو، كما قال مجاهد عن ابن عباس‏:‏ كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى ولم يكن فيهم العفو، فقال اللّه لهذه الأُمة‏:‏ ‏{‏كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شي‏}‏ فالعفو أن يقبل الدية في العمد، ذلك تخفيف مما كتب على بني إسرائيل ومن كان قبلكم ‏{‏فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان‏}‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏ذلك تخفيف من ربكم‏}‏ رحم اللّه هذه الأمة وأطعمهم الدية، ولم تحل لأحد قبلهم، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص‏.‏ وعفو ليس بينهم أرش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم‏}‏ يقول تعالى فمن قَتَل بعد أخذ الدية أو قبولها فله عذاب من اللّه، أليم‏:‏ موجع شديد، لحديث‏:‏ ‏(‏من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث‏:‏ إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله النار جهنم خالداً فيها‏)‏ ‏"‏رواه أحمد عن أبي شريح الخزاعي مرفوعاً‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم في القصاص حياة‏}‏ يقول تعالى‏:‏ وفي شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل، حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها، لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل، انكف على صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس، واشتهر قولهم‏:‏ ‏(‏القتل أنفى للقتل‏)‏ فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز ‏{‏ولكم في القصاص حياة‏}‏ قال أبو العالية‏:‏ جعل اللّه القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل، ‏{‏يا أولي الألباب لعلكم تتقون‏}‏ يقول يا أولي العقول والأفهام والنهى، لعلكم تنزجرون وتتركون محارم اللّه ومآثمه‏.‏ والتقوى‏:‏ اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات‏.‏

 الآية رقم ‏(‏180 ‏:‏ 182‏)‏

‏{‏ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ‏.‏ فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ‏}‏

اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين، وقد كان ذلك واجباً قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه، وصارت المواريث المقدرة فريضة من اللّه، يأخذها أهلوها حتماً من غير وصية ولا تحمل مِنَّة الموصي، ولهذا جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏إن اللّه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث‏)‏ ‏"‏رواه أصحاب السنن عن عمرو بن خارجة‏"‏وعن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏الوصية للوالدين والأقربين‏}‏ نسختها هذه الآية‏:‏ ‏{‏للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلَّ منه أو كثر نصيباً مفروضاً‏}‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏والعجب من الرازي كيف حكى عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الآية غير منسوخة، وإنما هي مفسرة بآية المواريث، ومعناه‏:‏ كتب عليكم ما أوصى اللّه به من توريث الوالدين والأقربين من قوله‏:‏ ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏، قال‏:‏ وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء، قال‏:‏ ومنهم من قال إنها منسوخة فيمن يرث، ثابتة فيمن لا يرث، ولكن على قول هؤلاء لا يسمى نسخاً في اصطلاحنا المتأخر، لأن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية، لأن الأقربين أعم ممن يرث ومن لا يرث، فرفع حكم من يرث بما عين له وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى، وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم‏:‏ إن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندباً حتى نسخت، فأما من يقول‏:‏ إنها كانت واجبة، وهو الظاهر من سياق الآية، فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث، كما قاله أكثر المفسرين‏.‏

فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بالإجماع، بل منهي عنه للحديث المتقدم‏:‏ ‏(‏إن اللّه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث‏)‏ بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم، يستحب له أن يوصي لهم من الثلث، استئناساً بآية الوصية وشمولها، ولما ثبت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما حق امرىْ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده‏)‏ ‏"‏رواه الشيخان عن ابن عمر رضي اللّه عنهما‏"‏قال ابن عمر‏:‏ ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي ‏{‏إن ترك خيرا‏}‏ أي مالاً، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏ ثم منهم من قال‏:‏ الوصية مشروعة سواء قل المال أو كثر، ومنهم من قال‏:‏ إنما يوصي إذا ترك مالاً كثيرا‏.‏ قيل لعلي رضي اللّه عنه‏:‏ إن رجلاً من قريش قد مات وترك ثلثمائة دينار أو أربعمائة ولم يوص، قال‏:‏ ليس بشيء، إنما قال اللّه ‏{‏إن ترك خيرا‏}‏ إذا تركت شيئاً يسيراً فاتركه لولدك‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ من لم يترك ستين ديناراً لم يترك خيراً‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان يقال ألفاً فما فوقها، وقوله‏:‏ ‏{‏بالمعروف‏}‏ أي بالرفق والإحسان، والمراد بالمعروف أن يوصي لأقاربه وصيةً لا تجحف بورثته كما ثبت في الصحيحين أن سعداً قال‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ إن لي مالاً ولا يرثني إلا ابنة لي أفأوصي بثلثي مالي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، قال‏:‏ فبالشطر‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، قال‏:‏ فبالثلث‏؟‏ قال‏:‏ ‏)‏الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس‏)‏‏.‏ وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال‏:‏ لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏)‏الثلث، والثلث كثير‏)‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم‏}‏، يقول تعالى‏:‏ فمن بدل الوصية وحرَّفها فغيَّر حكمها وزاد فيها أو نقص، ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى ‏{‏فإنما إثمه على الذين يبدلونه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وقع أجر الميت على اللّه، وتعلَّق الإثم بالذين بدلوا ذلك‏.‏ ‏{‏إن الله سميع عليم‏}‏ أي قد اطلع على ما أوصى به الميت وهو عليم بذلك وبما بدله الموصَى إليهم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن خاف من موص جنفا أو إثما‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ الجنف‏:‏ الخطأ، وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها، بأن زادوا وارثاً بواسطة أو وسيلة، كما إذا أوصى لابن ابنته ليزيدها أو نحو ذلك من الوسائل، إما مخطئا غير عامد بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر،أو متعمداً آثماً في ذلك، فللوصي والحالة هذه أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي، ويعدل عن الذي أوصى به الميت، إلى ما هو أقرب الأشياء إليه واشبه الأمور به، جمعاً بين مقصود الموصي والطريق الشرعي، وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء، ولهذا عطف هذا فنبَّه على النهي عن ذلك، ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل، واللّه أعلم‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏)‏الجنف في الوصية من الكبائر‏)‏ ‏"‏رواه ابن مردويه مرفوعاً، قال ابن كثير‏:‏ وفي رفعه نظر‏"‏وعن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏)‏إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة‏)‏ قال أبو هريرة‏:‏ اقرأوا إن شئتم ‏{‏تلك حدود اللّه فلا تعتدوها‏}‏ الآية‏.‏‏"‏أخرجه عبد الرزاق عن أبي هريرة مرفوعا‏"‏‏.‏

 الآية رقم‏(‏183 ‏:‏ 184‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ‏.‏ أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ‏}‏

يخاطب تعالى المؤمنين من هذه الأُمة، آمراً إياهم بالصيام، وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع، بنية خالصة للّه عزّ وجلّ، لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة، وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم، فلهم فيه أسوة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاستبقوا الخيرات‏}‏، ولهذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون‏}‏ لأن الصوم فيه تزكية للبدن، وتضييق لمسالك الشيطان، ولهذا ثبت في الصحيحين‏:‏ ‏)‏يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج‏.‏‏.‏ ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء‏)‏، ثم بيَّن مقدار الصوم وأنه ليس في كل يوم، لئلا يشق على النفوس، فتضعف عن حمله وأدائه، بل في أيام معدودات، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام، يصومون من كل شهر ثلاثة أيام، ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان كما سيأتي بيانه‏.‏ وقد روي أن الصيام كان أولاً كما كان عليه الأمم قبلنا، من كل شهر ثلاثة أيام ولم يزل هذا مشروعاً من زمان نوح، إلى أن نسخ اللّه ذلك بصيام شهر رمضان، وقال الحسن البصري‏:‏ لقد كتب الصيام على كل آُمّة قد خلت كما كتب علينا، شهراً كاملاً وأياماً معدودات عدداً معلوماً‏.‏ وعن عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ قال رسول الّله صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏)‏صيام رمضان كتبه اللّه على الأمم قبلكم‏)‏ ‏"‏رواه ابن ابي حاتم عن عبد اللّه بن عمر مرفوعاً‏"‏‏.‏

وقال عطاء عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏كما كتب على الذين من قبلكم‏}‏ يعني بذلك أهل الكتاب، ثم بيَّن حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فقال‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر‏}‏ أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر، لما في ذلك من المشقة عليهما، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أُخر، وأما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام، فقد كان مخيراً بين الصيام وبين الإطعام، إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً، فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير، وإن صام فهو أفضل من الإطعام، قاله ابن مسعود وابن عباس، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون‏}‏‏.‏

روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء، ثم إن اللّه فرض عليه الصيام وأنزل اللّه تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين‏}‏ فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكيناً فأجزأ ذلك عنه، ثم إن اللّه عزّ وجلّ أنزل الآية الأُخرى‏:‏ ‏{‏شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ فأثبت اللّه صيامه على المقيم الصحيح، ورخَّص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلاً من الانصار يقال له صرمةكان يعمل صائما، حتى أمسى فجاء إلى أهل فصلَّى العِشاء ثم نام، فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح، فأصبح صائما فرآه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد جهد جهداً شديداً، فقال‏:‏ ‏)‏مالي أراك قد جهدت جهداً شديداً‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ يا رسول اللّه إني عملت أمس، فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت، فأصبحت حين اصبحت صائماً،قال‏:‏ وكان عم قد أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم - إلى قوله - ثم أتموا الصيام إلى الليل‏}‏ ‏"‏أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم‏"‏

وروي البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين‏}‏ كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها، وروي عن ابن عمر قال‏:‏ هي منسوخة، وقال السُّدي‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين‏}‏ كان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً فكانوا كذلك حتى نسختها‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ وقال ابن عباس‏:‏ ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً ‏"‏أخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس‏"‏وعن ابن عباس قال‏:‏ نزلت هذه الآية ‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين‏}‏ في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف، فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينا، وعن ابن أبي ليلى قال‏:‏ دخلت على ‏"‏عطاء‏"‏في رمضان وهو يأكل فقال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية فنسخت الأولى، إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينا وأفطر ‏"‏أخرجه ابن مردويه عن ابن أبي ليلى‏"‏

فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم، بإيجاب الصيام عليه بقوله‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام، فله أن يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليس له حال يصير إليه يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ذا جدة‏؟‏ فيه قولان، أحدهما‏:‏ لا يجب عليه إطعام لأنه ضعيف عنه لسنه، فلم يجب عليه فدية كالصبي، لأن اللّه لا يكلف نفساً إلا وسعها وهو أحد قولي الشافعي‏.‏ والثاني‏:‏ وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء أنه يجب عليه فدية عن كل يوم، وهو اختيار البخاري، فإنه قال‏:‏ وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام، فقد أطعم أنَسٌ بعد ما كبر عاماً أو عامين، عن كل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً وأفطر، ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل و المرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما، ففيهما خلاف كثير بين العلماء فمنهم من قال‏:‏ يفطران ويفديان ويقضيان، وقيل‏:‏ يفديان فقط ولا قضاء، وقيل‏:‏ يجب القضاء بلا فدية، وقيل‏:‏ يفطران ولا فدية ولا قضاء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏185‏)‏

‏{‏شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ‏}‏

يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم، بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء، قال الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ وأنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشر خلت من رمضان، وأنزل اللّه القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان، وأما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل، فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة القدر‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة مباركة‏}‏ ثم نزل بعد مفرقاً بحسب الوقائع على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، هكذا وري من غير وجه عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود فقال‏:‏ وقع في قلبي الشك قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة مباركة‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة القدر‏}‏ وقد أنزل في شوّال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي المحرم وصفر وشهر ربيع‏!‏‏!‏ فقال ابن عباس‏:‏ إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر، وفي ليلة مباركة جملةً واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلاً في الشهور والأيام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان‏}‏ هذا مدح للقرآن الذي أنزله اللّه هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدّقه واتبعه، ‏{‏وبينات‏}‏ أي دلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها، دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي، ومفرقاً بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وقد روي عن بعض السلف أنه كره أن يقال‏:‏ رمضان ورخص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت، وقد انتصر البخاري لهذا فقال‏:‏ باب - يقال رمضان - وساق أحاديث في ذلك، منها‏:‏ ‏)‏من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏، ونحو ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ هذا إيجاب حتمٌ على من شهد استهلال الشهر، أي كان مقيماً في البلد حين دخل شهر رمضان وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة، ونسخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحاً مقيماً أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم كما تقدم بيناه‏.‏ ولما ختم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار بشرط القضاء فقال‏:‏ ‏{‏ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر‏}‏ معناه‏:‏ ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه أو يؤذيه، أو كان على سفر أي في حالة السفر فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه عدة ما أفطره في السفر من الأيام، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏ أي إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض والسفر، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح السليم تيسيراً عليكم ورحمة بكم‏.‏

وههنا مسائل تتعلق بهذه الآية، إحداها‏:‏ أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيماً في أول الشهر ثم سافر في اثنائه فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه لقوله‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏، وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر، وهذا قول غريب نقله ابن حزم في كتابه ‏"‏المحلى‏"‏عن جماعة من الصحابة والتابعين وفيما حكاه عنهم نظر، فإنه قد ثبتت السنّة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح فسار حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأمر الناس بالفطر ‏"‏الحديث في الصحيحين‏"‏، الثانية‏:‏ ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعدة من آيام آخر‏}‏ والصحيح قول الجمهور أن الأمر في ذلك على التخيير، وليس بحتم، لأنهم كانوا يخرجون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في شهر رمضان قال‏:‏ فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم الصيام، بل الذي ثبت من فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائماً، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء قال‏:‏ خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعبد اللّه بن رواحة‏.‏ الثالثة‏:‏ قالت طائفة، منهم الشافعي‏:‏ الصيام في السفر أفضل من الإفطار لفعل الني صلى اللّه عليه وسلم كما تقدم، وقالت طائفة بل الإفطار أفضل أخذاً بالرخصة، وقالت طائفة‏:‏ هما سواء لحديث عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال‏:‏ يا رسول اللّه إني كثير الصيام أفأصوم في السفر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏)‏إن شئت فصم وإن شئت فأفطر‏)‏ ‏"‏رواه البخاري ومسلم‏"‏وقيل‏:‏ إن شقَّ الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأى رجلاً قد ظلّل عليه فقال‏:‏ ‏)‏ما هذا‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ صائم، فقال‏:‏ ‏)‏ليس من البر الصيام في السفر‏)‏ أخرجاه‏.‏ الرابعة‏:‏ القضاء هل يجب متتابعاً أو يجوز فيه التفريق فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه يجب التتابع لأن القضاء يحكي الأداء، والثاني‏:‏ لا يجب التتابع بل إن شاء فرق وإن شاء تابع، وهذا قول جمهور السلف والخلف وعليه ثبتت الدلائل، لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدة ما أفطر، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فعدة من أيام أخر‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏‏.‏

وفي الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن‏:‏ ‏(‏بشّرا ولا تنفرا ويسّرا ولا تعسّرا وتطاوعا ولا تختلفا‏)‏ وفي السنن والمسانيد أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏بعثت بالحنيفية السمحة‏)‏ ومعنى قوله ‏{‏يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة‏}‏ أي إنما أرخص لكم في الإفطار لمرض والسفر ونحوهما من الأعذار، لإرادته بكم اليسر، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم، وقوله‏:‏ ‏{‏ولتكبروا الله على ما هداكم‏}‏ أي ولتذكروا اللّه عند انقضاء عبادتكم، كما قال‏:‏ ‏{‏فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل اللّه واذكروا اللّه كثيرا لعلكم تفلحون‏}‏ ولهذا جاءت السنّة باستحباب التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات، وقال ابن عباس‏:‏ ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا بالتكبير، ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية‏:‏ ‏{‏ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولعلكم تشكرون‏}‏ إي إذا قمتم بما أمركم اللّه من طاعته، بأداء فرائضه، وترك محارمه، وحفظ حدوده، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏186‏)‏

‏{‏ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ‏}‏

روي أن أعرابياً قال‏:‏ يا رسول اللّه أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه‏؟‏ فسكت النبي صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏وإذا سالك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏وعن الحسن قال‏:‏ سأل أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أين ربنا‏؟‏ فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان‏}‏ الآية‏.‏ وقال عطاء إنه بلغه لما نزلت ‏{‏وقال ربكم ادعوني أستجب لكم‏}‏ قال الناس‏:‏ لو نعلم أيّ ساعة ندعو‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان‏}‏‏.‏ وعن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة فجعلنا لا نصعد شرفاً، ولا نعلو شرفاً، ولا نهبط وادياً، إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير‏.‏ قال‏:‏ فدنا منا فقال‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً بصيراً، إن الذين تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، يا عبد اللّه بن قيس ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة‏؟‏ لا حول ولا قوة إلا بالله‏)‏ ‏"‏رواه أحمد والشيخان‏"‏‏.‏

وعن أبي هريرة أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏قال اللّه تعالى أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه‏)‏ ‏"‏رواه أحمد عن أبي هريرة‏"‏

قلت‏:‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏}‏، وقوله لموسى وهارون عليهما السلام‏:‏ ‏{‏إنني معكما أسمع وأرى‏}‏ والمراد من هذا أنه تعالى لا يجيب دعاء داع، ولا شغله عنه شيء، بل هو سميع الدعاء، ففيه ترغيبٌ في الدعاء وأنه لا يضيع لديه تعالى، كما قال صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن اللّه تعالى ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيراً فيردهما خائبتين‏)‏ ‏"‏رواه أحمد عن سلمان الفارسي‏"‏وعن أبي سعيد أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يدعو اللّه عزّ وجلّ بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال‏:‏ إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الأخرى، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها‏)‏، قالوا‏:‏ إذن نكثر، قال‏:‏ ‏(‏اللّه أكثر‏)‏ ‏"‏رواه أحمد عن أبي سعيد‏"‏وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو اللّه عزّ وجلّ بدعوة إلا آتاه اللّه إياها أو كفَّ عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم‏)‏ ‏"‏رواه الترمذي‏"‏وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ يا رسول اللّه وما الاستعجال‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء‏)‏‏.‏

وقال صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم اللّه أيها الناس فأسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل‏)‏ ‏"‏رواه أحمد عن عبد اللّه بن عمرو‏"‏وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء، متخللة بين أحكام الصيام، وإرشاد إلى الإجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر، كما روي عن عبد اللّه بن عمرو قال، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد‏)‏ قال عبيد اللّه بن أبي مليكة‏:‏ سمعت عبد اللّه بن عمرو يقول إذا أفطر‏:‏ اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شي أن تغفر لي ‏"‏رواه ابن ماجة وأخرجه الطيالسي بنحوه‏"‏وعن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ثلاثة لا ترد دعوتهم‏:‏ الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها اللّه دون الغمام يوم القيامة وتفتح لها أبواب السماء ويقول بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين‏)‏ ‏"‏رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة‏"‏‏.‏